الدكتور نبيل تمام استشاري جراحة الأنف والحنجرة عضو الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان
مدخل منذ اندلاع أحداث 14 فبراير في 2011 شهدت البحرين تحولا جديدا في مسار الأزمات السياسية، حيث تعرضت كافة القطاعات المهنية إلى سياسة العقاب الجماعي التي نفذتها السلطات البحرينية بشكل انتقامي عبر الحملات الأمنية والقضائية، والتغطيات التحريضية في الإعلام الرسمي، وهو الأمر الذي لم تشهد له البحرين من مثيل في حجم الانتهاكات الجسيمة التي حدثت، اضافة إلى أنها كانت الدولة الوحيدة من ضمن دول الربيع العربي التي استهدفت القطاعات المهنية بما فيهم القطاع الطبي بهذا الشكل الممنهج. وقد أثار استهداف الحكومة البحرينية إلى الكادر الطبي ردود أفعال غاضبة من قبل أطراف وجماعات مهنية وحقوقية وسياسية من مختلف دول العالم، كما صدرت تقارير متعددة من قبل المنظمات والهيئات الحقوقية الدولية توثق الانتهاكات المروعة التي تعرض لها الأطباء والعاملون في الحقل الطبي، ومن هذه المنظمات: (هيومن رايتس ووتش، أطباء من أجل حقوق الإنسان، حقوق الإنسان أولا، وغيرها...). وفي هذا السياق يقول ريتشارد سولوم نائب مدير أطباء من أجل حقوق الإنسان: "تحقيقنا أثبت كذلك دليلا قويا بأن حكومة البحرين استهدفت بشكل ممنهج أكثر من 100 عامل في الكادر والنظام الصحي. عبر هذه الهجمات الممنهجة تمّ اختطاف الأطباء، بعضهم ألقي القبض عليه في منزله في منتصف الليل، حيث عصّبت عيناه وكبلت يداه قوات أمن مقنّعة، ... وتم جرّ بعضهم من غرف العمليات جرًّا بسبب تقديمهم للعناية الطبية للمتظاهرين". إن المجتمع الحقوقي الدولي أكد في مواقفه المختلفة على أن الكادر الطبي البحريني تعرض للعقاب بسبب أدائه لواجبه الإنساني، ما يثير التساؤلات المختلفة حول واقع مفهوم الحياد الطبي في الحالة البحرينية.
الحياد الطبي.. المفهوم والتساؤلات
من واجب جميع العاملين في القطاع الصحي تقديم الرعاية الصحية لمن يحتاجها، بغض النظر عن هويته وأيديولوجيته وانتمائه، وهو ما يطلق عليه علميا: (الحياد الطبي) الذي وضعت له ضوابط وإرشادات من خلال معاهدات جنيف وبروتكولاتها في العام ١٩٤٩، فباتت جميع المؤسسات الطبية الدولية تقدره وتحترمه باعتباره ميثاق شرف مهني. وقد ظهر مصطلح الحياد الطبي منذ أكثر من ١٥٠ عاماً وذلك بعد معركة "سولفيرينو" التي خلفت ما يقارب ثلاثين ألف جريح من غير أدنى رعاية طبية في ساحة المعركة، فبات هذا سببا مباشرا لبدء جدل انتهى مع انطلاق معاهدات جنيف التي تعنى بضحايا النزاعات وتقديم الرعاية الطبية لهم. والأمثلة على عدم تطبيق مفهوم الحياد الطبي كثيرة في عدة دول، كالإستهداف المتعمد للطواقم الصحية في كسوفو، ومهاجمة المرضى والأطباء وعسكرة الخدمات الصحية في تيمور الشرقية، برغم أن المبادئ الأساسية للحياد الطبي واضحة تتضمن توفير الحماية لكل من الطواقم الصحية، والمرضى، والخدمات الصحية، وسيارات الإسعاف، إضافة إلى ضرورة عدم إعاقة الوصول للخدمات الصحية والعلاج، وتقديم الخدمات الصحية للمدنيين، وعدم التمييز في تقديم الخدمات الصحية الجرحى والمرضى. يرتكز مفهوم الحياد الطبي على 3 أركان أولها القانون الدولي الإنساني الذي يهدف إلى حماية الأشخاص الذين يعانون من ويلات الحرب، وبحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر فإن هذا القانون يعني "مجموعة القواعد الدولية الموضوعة بمقتضى معاهدات أو أعراف، والمخصصة بالتحديد لحل المشاكل ذات الصفة الإنسانية الناجمة مباشرة عن المنازعات المسلحة الدولية أو غير الدولية، والتي تحد -لإعتبارات إنسانية- من حق أطراف النزاع في اللجوء إلى ما يختارونه من أساليب أو وسائل للقتال، وتحمي الأشخاص والممتلكات". ومن هذا المنطلق وضعت جنيف مبادءها الأربعة والبروتكولين الملحقين بها بشأن تحسين حالة الجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة في الميدان، وتحسين حالة الجرحى والمرضى والغرقى من أفراد القوات المسلحة في البحار، إضافة إلى أسرى الحرب، وأخيرا مبادئ حماية المدنيين في وقت الحرب. أما الركن الثاني الذي يرتكز عليه مفهوم الحياد الطبي فهو القانون الدولي لحقوق الإنسان، وهو ما يعرف بالشرعية الدولية لحقوق الإنسان المكون من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (١٩٤٨) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية (١٩٦٦) والبروتكولين الملحقين، وهناك خلط شائع مابين الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والقانون الدولي لحقوق الإنسان والذي يتكون من إتفاقيات جنيف الأربع الخاصة بالحروب التي ذكرتها أعلاه. وأما الركن الثالث والأخير فهو أخلاقيات مهنة الطب، والذي اختصره القسم الطبي منذ ابو الطب " أبقراط" الذي يؤكد على ضرورة احترام الانسانية والمهنة واضعا من خلاله ميثاق شرف يسير عليه الأطباء في سلوكهم إلى أن تمت المصادقة على القسم الطبي في المؤتمر العالمي الأول للطب الاسلامي الذي فصل ذات المفاهيم بصياغة أخرى تتناسب و الدين الاسلامي. وتمثل أخلاقيات الطب مجموعة من القوانين واللوائح التي تم اكتسابها وتبنيها من قبل الهيئات الطبية على مدار تاريخ الطب واستناداً لستة قيم دينية وفلسفية وأخلاقية وهي الإستقلال الذاتي الذي يعطي للمريض الحق في اختيار أو رفض طريقة معالجته، والمعاملة الحسنة التي يجب على صاحب المهنة أن يعامل بها المريض، وعدم إيذاء المريض، والعدالة التي تحث على الاهتمام بتوزيع مصادر الصحة النادرة، وتقرير من الذي يستحق أخذ علاج ما من خلال الانصاف والمساواة، والمحافظة على كرامة المريض، وأخيرا الصدق والأمانة. هذا هو مفهوم الحياد الطبي بشكله العام والمتعارف عليه دوليا، فهل حققت دول العالم بشكل عام ودولنا العربية بشكل خاص هذا المفهوم؟، خصوصا في فترات الحروب والثورات والتي كان آخرها ثورات الربيع العربي؟. |