الدكتور منذر الخور منسق المرصد البحريني لحقوق الانسان
في سياق الجهود التي قادتها الأمم المتحدة لوضع آلية دولية فعّالة للتعاطي مع ملفات حقوق الإنسان وحماية الحقوق والحريات ومعالجة الانتهاكات التي تُرتكب ضدّهاعلى الصعيد العالمي من خلال وضع كل دولة عضو بالمنظمة الدولية موضع المساءلة حول سجلها الحقوقي وتقديم التوصيات التوجيهية لتصويبه أو تعزيزه، قدم الخبير السويسري في القانون الدستوري والدولي "الدكتور والتر كالين"(*) ثلاثة مقترحات رئيسة لإنشاء هيئة حقوقية دولية عُليا تحلُّ محلّ لجنة حقوق الإنسان التي أنشئت العام 1946 بموجب ميثاق الأمم المتحدة، وهي كالآتي: 1- مجلس كامل العضوية على هيئة الجمعية العامة شامل لجميع الدول الأعضاء بالأمم المتحدة تتخذ فيه القرارات بالأغلبية المطلقة. 2- مجلس خبراء من نخبة الدول ذات السجل الحقوقي النظيف. 3- مجلس من بعض الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، يتم انتخابهم بالاقتراع السري المباشر من قبل الجمعية العامة حسب التوزيع الجغرافي، مدة عضويتهم بالمجلس ثلاث سنوات، ولا يجوز إعادة انتخابهم إلا بعد مضي دورتين متتاليتين للمجلس. وقد تم الأخذ بالمقترح الأخير كخيار للآلية الدولية الجديدة، وأُنشئ مجلس حقوق الإنسان بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 60/251 الصادر في 15 مارس 2006 ودُشن رسمياً في 19 يونيو 2006 وضم 47 دولة يمثلون مختلف الأقاليم الجغرافية في العالم، كما أُنشئت بموجب القرار ذاته آلية أخرى للمساءلة الحقوقية، وهي آلية المراجعة الدورية الشاملة التي تُلزم جميع الدول الأعضاء بالأمم المتحدة البالغ عددها 192 بإخضاع سجلاتها الحقوقية للفحص الشامل والمساءلة بصورة دورية مرة كل أربع سنوات. وقد تكون هذه الصيغة قد راعت التمثيل الجغرافي للدول، بحيث تكون جميع المناطق في العالم ممثلة في المجلس دون استثناء طبقاً لما هو معمول به في جميع الآليات الأخرى التابعة للأمم المتحدة، لكن الخلل شابها نتيجة عدم التجانس بين المناطق الجغرافية في مستوى الحريات والديمقراطية، حيث تنتشر في بعض مناطق العالم النظم الديمقراطية راسخة الجذور والتي تتمتع بمستويات عالية من الحرية، فيما تعجُّ مناطق أخرى بالأنظمة الدكتاتورية والشمولية والتي تتميز بمستويات عالية من القمع وقهر الحريات. هذه التوليفة الغريبة أفرزت خليطاً عجيباً من الدول داخل المجلس، حيث ضم دولاً تحافظ على الحقوق والحريات وأخرى قامعة لها على حد سواء. وهي تعكس من حيث الواقع الصورة الحقيقية للعالم بكل مثالبه. فإذا كان المجلس هو الآلية الأممية المؤتمنة على الحفاظ على حقوق البشر وصون حرياتهم، فإن في أحشائه من يقف على النقيض من ذلك تماماً. هذه الصورة تظهر جلياً في كل مرة يُعرض فيها تقرير حقوقي لدولة عضو بالأمم المتحدة للمراجعة الدورية الشاملة من قبل أعضاء المجلس، خصوصاً إذا كانت الدولة صاحبة التقرير ذات أوضاع حقوقية متأزمة؛لأن هناك دولاً تبدو حريصة على حماية حقوق الإنسان ووقف التعدي عليها في كل الزوايا المظلمة من العالم، فيما تبدو دول أخرى أكثر حرصاً على حماية نفسها من الإدانة؛لأنها تجد نفسها مثقلة بالتجاوزات على الحقوق الإنسانية والتعدي على الحريات العامة ولا سبيل لها للإفلات من الإدانة إلا باللجوء إلى ما يشبه الصفقات مع الدول التي على شاكلتها طلباً لدعمها ساعة المساءلة مقابل رد الجميل إليها عندما تحين ساعة مساءلة هذه الدول عند فحص سجلاتها الحقوقية، فيما تختلط المصالح بالحقوق لدى دول أخرى خاصة المتنفذة منها؛ لأن المصالح تتصدر سلّم أولوياتها، والحقوق مجرد أوراق لعب سياسية تستخدمها لخدمة مصالحها الاستراتيجية العليا. وهذه أخطر اللعب السياسية على الحقوق؛ لأن الحقوق تضيع أكثر ما تضيع في متاهة لعبة المصالح السياسية والاستراتيجية العليا للدول، وتحديداً المتنفذة منها ذات المصالح الكبرى المنتشرة على امتداد العالم أو أجزاء واسعة منه.هذا هو المشهد السياسي للمجلس منذ قيامه في العام 2006، حيث يشكّل آلية سياسية تتصارع فيها إرادات ومصالح الدول وتتداخل سياساتها الخارجية مع الأجندات الحقوقية على الصعد الوطنية والدولية، وتتبلور مواقفها طبقاً لطبيعة المصالح التي تربطها بالدول الأخرى موضع الفحص والمراجعة الشاملة لملفاتها الحقوقية، إذ غالباً ما تتقدم المصالح في أجندات هذه الدول وتتراجع الحقوق إلى الوراء، بل يجري التضحية بها مقابل الحفاظ على المصالح. هذه الصورة تبرز، كما سلف ذكره، عند عرض كل تقرير رسمي حقوقي أمام المجلس، خصوصاً من دولة متأزمة حقوقياً، علماً أنه تُقدم إلى المجلس ثلاثة تقارير حقوقية، وهي التقرير الوطني للدولة موضع المساءلة،وتقرير الخبراء في المفوضية العليا لحقوق الإنسان، وتقرير المنظمات الحقوقية غير الحكومية. ولعل من أفضل مزايا المجلس أنه أشرك منظمات المجتمع المدني الحقوقية في آلية المراجعة الدورية الشاملة من خلال اعتبارها جزءاً من هذه المراجعةحيث أتاح للمنظمات الحقوقية غير الحكومية التي تتمتع بوضع استشاري لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة تقديم تقاريرها الموازية، وكذلك السماح لها بحضور جلسات المراجعة كمراقبين والمداخلة شفهياً أمام مجلس حقوق الإنسان لإبداء وجهات نظرها كجهات حقوقية أهلية مستقلة إزاء ما تطرحه الحكومات في تقاريرها الرسمية عن كيفية تعاطيها مع مسائل حقوق الإنسان في بلدانها ومع الملفات الحقوقية عموماً. ومن خلال هذه المشاركة يبرز الدور الرقابي للمنظمات الحقوقية غير الحكومية في أعمال المجلس ومداولاته وحتى في مواقف الدول الأعضاء؛لأنه دورمحسوس تضعه هذه الدول في حساباتها رغم أن هذه المنظمات لا تتمتع بصفة العضوية داخل المجلس؛ لأن العضوية فيه منحصرة في الدول باعتبارها كيانات سياسية معترفاً بها من قبل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، حيث تتمتع هذه المنظمات فقط بصفة مراقب لدى المجلس بحكم وضعها الاستشاري لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي العالمي. ومن خلال دورها الرقابي المحسوس تؤثر المنظمات غير الحكومية في مواقف الدول الأعضاء الممثلة في المجلس وتمارس ضغطاً معنوياً عليها وعلى قوى سياسية أخرى خارج المجلس تؤثر بدورها على الأطراف الممثلة فيه، مما يعني أن هذه المنظمات تلعب أيضاً لعبة سياسية خارج المجلس دون أن تشغل مقاعد عضوية داخله. هذه الصورة السياسية بدت جلية في مواقف الدول الأعضاء بمجلس حقوق الإنسان وكذلك المراقبين من خلال مداخلات مندوبيها وممثليها أثناء مناقشة التقرير الثاني لحكومة البحرين من قبل المجلس في جلسة المراجعة الدورية الشاملة المنعقدة بجنيف بتاريخ 21 مايو 2012 والتي أسفرت عن تقديم 176 توصية من قبل الدول الأعضاء حول أوضاع حقوق الإنسان في البحرين، وهو رقم قياسي في عدد التوصيات التي قدمتها الدول الأعضاء بالمجلس في حق دولة عضو بالأمم المتحدة وضع تقريرها الوطني قيد المناقشة والمداولة بالمجلس وذلك منذ إنشاء هذا المجلس حتى تاريخ مناقشة هذا التقرير. وهذا يدل بوضوح على مدى وحجم الانتهاكات التي ارتكبت في البحرين منذ انطلاق حركة الاحتجاجات الشعبية في فبراير 2011 لحين عرض التقرير؛لأن كثرة التوصيات تفصح عن كثرة التجاوزات والخروقات التي ارتكبتها السلطات السياسية والأمنية ضد الحقوق والحريات في البلاد. هذه التوصيات بلورت المواقف الرسمية للدول الأعضاء إزاء أوضاع حقوق الإنسان في البحرين معبّرة عن مرئياتها بوجود ممارسات خاطئة في مجال الحقوق والحريات، وأن هذه التوصيات هي حزمة نصائح تسديها هذه الدول لتصحيح الأوضاع ووقف الممارسات الخاطئة في حق الإنسان البحريني وحريته. وهي الفلسفة التي تستند إليها آلية المراجعة الدورية الشاملة والغرض الأساس من المساءلة فيها. وبنظرة فاحصة لمداخلات المندوبين والمراقبين، سواء في جلسة المراجعة الدورية الشاملة للتقرير بتاريخ 21 مايو أو جلسة رد حكومة البحرين على التوصيات بتاريخ 19 سبتمبر 2012،يتبين أنهم على وعي تام بخطورة الوضع الإنساني في البحرين وبمعاناة شعبها من أشكال متعددة من الانتهاكات الجسيمة. ولم تفلح مداخلات بعض مندوبي الدول الأخرى الداعمة لموقف حكومة البحرين، والتي كالت المديح والاطراء لسجلها الحقوقي وأشادت"بالتقدم الحاصل في الحقوق السياسية والمدنية.."، من حجب حقيقة ما تعرض له المواطنون البحرينيون من انتهاكات واسعة النطاق جراء ممارسات عدائية للحقوق المشروعة للانسان وفي مقدمة ذلك التعدي على حرية التعبير عن الرأي وحق التجمع والتظاهرالسلمي. فقد تناولت مداخلات المندوبين الحديث عن كمٍّ هائل من الانتهاكات المرتكبة والمحرّمة بموجب القانون الدولي الإنساني كالاعتقالات التعسفية، والاخفاء القسري، والتعذيب وسوء المعاملة، والوفاة في الحجز، والقتل خارج القانون، والترهيب والقمع ضد المدافعين عن حقوق الإنسان والصحافيين والمنظمات غير الحكومية، والإفراط في استخدام القوة، والقيود المفروضة على حرية التعبير عن الرأي، ومنع المقررين الخاصين للمفوضية العليا من زيارة البلاد، والقيود على تنقلات الصحافيين الأجانب والمنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان، ومحاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، والقيود المفروضة على منظمات المجتمع المدني، وهدم المساجد، وفصل العمال والموظفين والطلاب، واستهداف الطواقم الطبية، والإفلات من العقاب، والحبس الانفرادي، والتمييز ضد المرأة. وجميعها ممارسات معادية لحقوق الإنسان كل واحدة منها تستوجب الإدانة والتحقيق في حيثياتها من قبل أعلى الهيئات الحقوقية الدولية ومساءلة مرتكبيها وتقديمهم للعدالة.هذه المسألة كانت حاضرة بقوة في توصيات المجلس، حيث دعا العديد من أعضائه إلى" اتخاذ الإجراءات اللازمة لتوفير المساءلة عن الانتهاكات.. والمقاضاة الفعالة لجميع رجال الأمن الذين عذبوا أو أساءوا معاملة المتظاهرين..وإنهاء الإفلات من العقاب وتقديم منتهكي حقوق الإنسان إلى العدالة". ومن الملاحظ أن الدول الأعضاء التي قدمت توصيات جادة لمعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في البحرين ووضع حدٍّ لها هي من الدول التي لها نظم سياسية ذات نهج ديمقراطي، بعضها من الدول المترسخة جذورها في الديمقراطية وبعضها الآخر من الدول حديثة الديمقراطية سواء في أوروبا الشرقية أو أمريكا اللاتينية،إذ تقف على رأس الدول المساندة للحريات العامة والمطالبة بوقف الخروقات التي ترتكب ضد حقوق الإنسان وتصحيح الأخطاء في السجل الحقوقي البحريني دولٌ مثل النمسا والدنمارك والنرويج وسلوفينيا، فيما تشكل بيلاروسيا استثناءً من القاعدة التي اتبعتها دول أوروبا الشرقية حديثة الديمقراطية في جلسة البحرين؛ لأنها برزت في مجلس حقوق الإنسان كمدافع عن موقف حكومة البحرين، الأمر الذي يكشف عن طبيعة نظامها السياسي وكيفية تعاطيه مع قضايا الحقوق والحريات والمطالبة بالديمقراطية بأكثر مما يكشف عن ارتباطها بمصالح مباشرة أو غير مباشرة مع البحرين،إذ إن المصالح بينهما ليست على درجة من الأهمية تستدعي تبني هذا الموقف. أما الدول ذات المصالح الكبرى في العالم والتي تربطها مصالح استراتيجية هامة مع البحرين والدول المجاورة لها في المنطقة كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، فأبدت إشارات يمكن القول عنها خجولة إزاء التجاوزات والتعديات على حقوق الإنسان في البحرين، وذلك من باب رفع الحرج عنها تفادياً لانتقادات المدافعين عن حقوق الإنسان من منظمات ونشطاء فيما تحكم المصالح سياساتها الخارجية ومواقفها المعلنة بالدرجة الأولى، وهي ليست مستعدة للتفريط فيها مقابل "حفنة مبادئ مثالية". هذه الدول هي الاكثر تأثيراً على مجريات الأوضاع السياسية والحقوقية في البحرين بالنظر إلى حاجة الحكم القائم فيها لدعمها ومساندتها وإمدادها له بمصادر القوة وفي مقدمتها السلاح والدعم السياسي والخبرات الأمنية والاستخباراتية وبناء القدرات العسكرية مما يجعلها الأقدر على ممارسة الضغط السياسي والتوجيه نحو حلول سياسية للأوضاع المتأزمة في البلاد، لكنها تتحكم في وتيرة تعاطيها مع الحكم القائم وفي تدفقات الدعم بما يخدم مصالحها بالدرجة الأولى والتي تأتي فوق كل الاعتبارات. ولم تتخلف المصالح في تشكيل مواقف فئة أخرى من الدول الأعضاء بالمجلس إزاء الوضع الحقوقي البحريني، حيث اهتمت بعض الدول الآسيوية الأعضاء المرتبطة بنوع آخر من المصالح مع البحرين بحقوق العمال الأجانب مراعاة لمصالح مواطنيها العاملين في هذا البلد، وعلى رأس هذه الدول تأتي الفلبين التي دعت البحرين إلى الانضمام إلى الاتفاقية الدولية بشأن حماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم،وكذلك إلى اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 189 حول العمل اللائق للعمال المنزليين، ورحبت بسنّ قانون جديد للعمل، ودعت إلى التدرج في مأسسة آليات الحماية للعمال المهاجرين.بنغلاديش أعربت عن أملها في تحسين أوضاع العمال المهاجرين،والهند دعت إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة لمعالجة المسائل المتعلقة بالعمال الأجانب كتعرضهم لمنع السفر وأحياناً فقدان حقَّيْ الإقامة والعمل أثناء التحقيق في قضايا التجاوزات المالية، وإندونيسيا دعت إلى تكثيف الجهود لتعزيز وحماية العمال المهاجرين. ومن الطبيعي أن تعبر الدول المرسلة للعمالة إلى الخارج من خلال المجلس باعتباره منبراً حقوقياً عالمياً عن مواقف مساندة لعمالتها المهاجرة وتصب في صالحها كالمطالبة بإضفاء الحماية على حقوق عمالها في الخارج وتحسين أوضاعهم وظروف عملهم ومعالجة الانتهاكات والتجاوزات التي يتعرضون لها في الدول المضيفة. ومن المنطقي أن تبدي الدول الآسيوية المرسلة للعمالة إلى البحرين اهتماماً خاصاً بحقوق عمالها المغتربين وأوضاعهم،وتعتبر ذلك هماً وطنياً بالنسبة لها، كما أن هذه الفئة من العمالة المغتربة بحاجة ماسة لحماية وصون حقوقها وفق ما هو منصوص عليه في القانون الدولي الإنساني ومواثيق العمل الدولية، لكن الاهتمام بالحقوق يجب أن يأخذ بعداً إنسانياً أشمل، بحيث يتسع فيشم لكل من انتهكت حقوقهم من البشر من مواطنين ومغتربين على السواء بدل الاكتفاء بإشارات عابرة عن بعض الحقوق لمواطني البحرين كحقوق المرأة. أما الدولة الآسيوية الأخرى تايلند، فقد شجعت اتخاذ حماية قوية لحقوق العمال المهاجرين، لكنها أسهبت في الاطراء والمدح لما تحقق في المجال الحقوقي ومنها التصديق على بعض الاتفاقيات، ومن الواضح أن المصالح الخاصة التي تربط المتنفذين في الدولتين قد أملت عليها هذه المجاملة في الموقف على حساب مطالب البحرينين باحترام حقوقهم وإطلاق الحريات الديمقراطية في وطنهم. أما أقوى المواقف الدولية تعبيراً عن حساسية المجتمع الدولي إزاء الأوضاع الإنسانية في البحرين وأكثرها تضامناًمع ضحايا الانتهاكات الأمنية هي تلك المواقف التي عبرت عنها مجموعة من الدول غالبيتها ذات نظم سياسية قائمة على الخيار الديمقراطي في أوروبا الغربية والشرقية وإحدى دول أمريكا الشمالية وإحدى الدول الآسيوية،حيث ضمنت توصياتها المطالبة بالتحقيق المعمق في جميع حالات الانتهاك وضمان المساءلة الكاملة ومحاكمة جميع المسئولين من جميع الرتب عن التعذيب وسوء المعاملة والوفاة في الحجز وعمليات القتل خارج القانون والاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري بما في ذلك كبار المسئولين في الحكومة. هذه المواقف استهدفت أسوأ الانتهاكات وتواءمت مع المعايير الحقوقية الدولية من حيث المطالبة بمساءلة ومقاضاة جميع منتهكي حقوق الإنسان ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية والتي لا تسقط بالتقادم بمقتضى القانون الدولي كالتعذيب وسوء المعاملة والتعذيب المفضي إلى الوفاة وأعمال القتل غير القانونية، حيث عبرت عن هلع أصحابها من هول هذه الممارسات غير الإنسانية والتي لا يمكن التغاضي عنها أو التستر عليها،حيث يتبين بوضوح أن هذه الدول على دراية تامة بما جرى داخل وخارج سجون البحرين. جميع التوصيات الداعية لمساءلة ومحاكمة المنتهكين رفضتها حكومة البحرين نظراً لأنها تخالف سياستها المعتمدة في الإفلات من العقاب وإضفاء الحصانة على الجناة ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية. كما قدمت هذه الدول أيضاً بمعية دول أخرى توصيات لحكومة البحرين بالتصديق على البرتوكولين الأول والثاني الملحقين بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وهي توصيات رفضتها أيضاً لأسباب لا تخفى على المدافعين عن حقوق الإنسان والمعنيين بالشأن الحقوقي، وهي أن هذه البروتوكولات تشكل آليات حماية؛ لأنها تمنح الأفراد حق الشكوى والتظلم وتضع مرتكبي المظالم والانتهاكت تحت طائلة المساءلة والعقاب. وقد ظهرت في مداولات المجلس بجلسة المراجعة الشاملة بتاريخ 21 مايو حالة من تقاطع المواقف بين بعض أعضائه من الدول ذات النظم السياسية المختلفة فكراً وممارسة في مسائل حقوق الإنسان وبدت هذه الحالة أكثر وضوحاً في جلسة الرد الحكومي على التوصيات بتاريخ 19 سبتمبر 2012، وهي تتعلق بالحث على تنفيذ توصيات تقرير اللجنة البحرينية لتقصي الحقائق المعروفة بـ "لجنة بسيوني"،وهو التقرير الصادر في 23 نوفمبر 2011،حيث أشاروا مراراً في مداخلاتهم إلى توصيات هذه اللجنة وقدموا ما يقارب من 15 توصية تضمنت معظمها إشادة بتشكيل اللجنة ودعوة للحكومة إلى "تنفيذ.."(مصر وتركيا) أو"الاستمرار في تنفيذ.." (الأردن والسعودية)أو "وضع إطار زمني مناسب وآلية شفافة لمتابعة تسريع تنفيذ.." (السويد والنرويج)أو "التأكد من أن هناك متابعة.." ( قطر)أو "متابعة تنفيذ.." (الكويت)أو "التنفيذ الكامل.." (كوريا وتايلند)أو "إحراز إصلاحات ملموسة وواضحة من خلال تنفيذ.." (اليابان)أو "الالتزام بتنفيذ.." (ماليزيا)أو "الرغبة في تنفيذ.." (ليبيا)أو "توقع احترام الالتزام بتنفيذ.." (البرازيل)أو "تنفيذ جميع.." (كندا)أو"وعود بإجراء إصلاحات بناءً على توصيات اللجنة.."(المملكة المتحدة)أو "تأمل بتنفيذ.." (الأورغواي)أو"تأمل بالمتابعة.." (المجر)،لكن أشد هذه المواقف جاءت من الولايات المتحدة التي أعلن مندوبها في جلسة 21 مايو عن قلق بلاده بأن "العديد من أهم التوصيات لم تنفذ"،وكذلك من النمسا التي دعت حكومة البحرين إلى "تقديم نتائج لجنة التقصي إلى المجلس..". هذه المداخلات عبرت بدرجات متفاوتة عن مواقف أصحابها من مسألة التنفيذ،إذ أفصحت أغلبها ضمنياً عن عدم اقتناعها أو شكوكها في عملية التنفيذ أو في الجدية في التنفيذ فيما عدا من عبروا عن الاستمرار في التنفيذ. ويستشف من خلال هذه التعليقات بأن هناك تململاً حتى من الدول الصديقة لحكومة البحرين من عدم الجدية ومن البطء ومن النقص في عملية التنفيذ لجميع التوصيات. إن تبني المجلس توصيات محددة تتعلق بتوصيات لجنة تقصي الحقائق ضمن توصياته قد أضفى عليها صبغة دولية ولم تعد محصورة في محيطها المحلي، بل أصبحت ملزمة دولياً كما هي محلياً في آن واحد، الأمر الذي منحها قوة إلزامية إضافية على صعيد الالتزام المزدوج بالتنفيذ، بالرغم من تأكيد الحكومة بأن معظم توصيات لجنة التقصي قد نفذت من قبل اللجنة الوطنية لمتابعة تنفيذ توصيات اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، وهو ما يخالف ما أدلى به مندوب دولة صديقة لحكومة البحرين في جلسة 21 مايو بأن "العديد من أهم التوصيات لم تنفذ"، وما صرح به "مايكل بوسنر" مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لحقوق الإنسان في جنيف بتاريخ 19 سبتمبر 2012 بأن"تنفيذ توصيات لجنة بسيوني يتعثر، وأن البحرين على مفترق طرق". وإذا كانت مواقف هذه الدول قد تقاطعت حول أهمية توصيات تقرير لجنة تقصي الحقائق لمعالجة الخلل في سجل البحرين الحقوقي وضرورة إيفاء حكومتها بالتزامها بالتنفيذ إلا أن درجة تعاطي هذه الدول من مسألة التوصيات تبدو متفاوتة بتفاوت رؤيتها من المسألة الحقوقية والتي تحكمها الاعتبارات الإنسانية أو السياسية أو المصالح بمختلف أشكالها، فالبعض رأها "محاولة من الحكم البحريني لمعالجة أخطائه ولإصلاح الاختلالات في سجله الحقوقي باعتبارها مبادرة منه"، والبعض الآخر رآها "محاولة تفتقر إلى المصداقية والجدية قصد منها حصر التحقيق والمعالجة في السياق المحلي والنأي بهما عن التدويل". وأياً كانت عليه الرؤى التي تحكم مواقف هذه الدول، فإن هناك إجماعاً بينها على أن هذا التقرير هو الوثيقة الوحيدة المسجلة للانتهاكات المعترف بها رسمياً، وأنه لامناص للحكومة بموجب هذا الاعتراف إلا التنفيذ طالما أن هذه الوثيقة هي حصيلة عمل لجنة مكلفة من قبلها بالتحقيق في الانتهاكات والأضرار التي لحقت بمواطنيها. ومن المواقف الانفرادية حول ملف البحرين الحقوقي موقف النمسا من تنفيذ الالتزام بإعادة بناء المساجد المهدمة، وإن كانت هناك إشارة من بعض الدول إلى وجوب احترام الحريات الدينية لجميع السكان. الإصلاحات الديمقراطية، وحرية التعبير والتجمع السلمي وتكوين الجمعيات، وحبس الطواقم الطبية، ومضايقة للصحافيين، والمفصولين من الموظفين والطلاب الجامعيين، ومنظمات المجتمع المدني، وزيارات المقررين الخاصين، والإجراءات الخاصة، وتنقل الصحافيين الأجانب، والمنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان، وتمكين المرأة ، والأطفال، والمعوقين، وعقوبة الإعدام، جميعها مواضيع تناولتها مداخلات الأعضاء داعين إلى احترام الحقوق والحريات كافة واحترام حق الأفراد والمجموعات في التعبير عن آرائهم بحرية تامة وعدم فرض قيود على حراك المجتمع المدني أو المساس بأي حق مشروع لكل إنسان. استنتاجات: - من خلال مداولات مجلس حقوق الإنسان في جلستي مايو وسبتمبر 2012 بالإمكان الاستنتاج بأن العديد من مداخلات المندوبين تظهر وعياً كبيراً بأبعاد الأزمة السياسية والحقوقية في البحرين واطّلاعاً واسعاً على مجريات الأمور كافياً لتكوين رؤية واضحة عن الوضع الحقوقي الإنساني، وأن مواقف الدول الأعضاء وإن تباينت حسب الثقافة السياسية السائدة فيها ورؤية أنظمتها الحاكمة لقضايا حقوق الإنسان،فإنها في معظمها مدركة بأن البحرين بحاجة لإصلاحات سياسية وحقوقية عميقة لتصويب خطاها على المسارين السياسي والحقوقي، وأن المشاركة الشعبية في صناعة المستقبل السياسي للبلاد وخلق بيئة وطنية صحية لنمو وتطور مفاهيم وممارسات حقوق الإنسان أمر لا بد منه، وأن الحلول الأمنية القائمة على القمع والقهر لم تعد تجدي في عصر الحريات وتزايد الوعي بالحقوق. - ويستنتج من مداولات المجلس أن معظم الأعضاءعلى دراية تامة بأن البحرين خاضت تجربة مريرة من الانتهاكات لحقوق مواطنيها بأشكال متعددة، الكثير منها على درجة كبيرة من الخطورة أوصلت الوضع الإنساني فيها إلى حالة مرضية حرجة تستدعي عناية فائقة من قبل جميع المدافعين عن حقوق الإنسان من منظمات ونشطاء لمعالجة وإخراج البلاد من الوضع السياسي والحقوقي المتأزم. - ويستنتج من المداولات أن المواقف التي تبنتها الدول الأعضاء ما هي إلا مرآة عاكسة لسياساتها ومصالحها، وأنها من خلال مناقشة الحالة الحقوقية للبحرين بالمجلس قد خاضت صراعاً خفياً فيما بينها من أجل تعزيز هذه السياسات أو حماية المصالح، وأن من هذه الدول من له دافع إنساني، وأن منها من له دافع مصلحي، وأن منها من يجمع بين الدافعين الإنساني والمصلحي، وأن منها من يغلب المصالح على كل اعتبار آخر. - ويستنتج من المداولات أن الدول ذات المصالح الكبرى تحاول المداراة ورفع الحرج عنها ما أمكن عند مراجعة سجل حقوقي لدولة صديقة لها متلبسة بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، فتظهر بمظهر المدافع عن الحقوق في المجلس وتتصرف تصرف المدافع عن المصالح خارجه. - ويستنتج من المداولات أن حكومة البحرين لم تكن تخلو من الأصدقاء في المجلس؛إذ إن هناك من انبرى لدعمها ومساندتها وتجميل صورتها باعتبارها " تفي بتعهداتها باحترام مبادئ حقوق الإنسان"،وذلك لدوافع متعددة؛ فمنهم من وقف معها بدافع الشراكة في النهج والسلوك، ومنهم من وقف معها لمصلحة أو مصالح تربطه بها، ومنهم من وقف معها بدافع الخشية من أي حراك شعبي مطلبي وتداعياته. - ويستنتج من المداولات أن الحركة المطلبية في البحرين لها أصدقاء في المجلس على درجة كبيرة من التفهم لطروحاتها ودوافعها وتطلعاتها، وأن هؤلاء مدركون أنها حركة مطالبة بالحقوق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان شأنها شأن أي حركة مطلببة أخرى في العالم، وأنها في سبيل هذه المطالب الديمقراطية قد عانت من التنكيل والقمع وانتهاك الحقوق والحريات. - ويستنتج من المداولات أن معظم الأعضاء بالمجلس مدركون أن مسألة البحرين قد غُيبت عن المحافل الدولية وأُبعدت قسراً عن آليات الأمم المتحدة وفُرض تعتيم إعلامي ودبلوماسي عليها، ومن هنا جاءت مطالبة بعض أعضاء المجلس بدعوة مفتوحة لجميع الإجراءات الخاصة لتناول هذه المسألة. - ويستنتج أيضاً أن التوصيات المقدمة من الدول الأعضاء قد تضمنت حلول عملية لمعالجة الوضع الإنساني والوضع السياسي المتأزم في البحرين منها العمل على تحقيق الإصلاحات الديمقراطية وتعزيز الحوار الوطني الاجتماعي والسياسي ومواءمة التشريعات الوطنية مع جميع التزامات البحرين الدولية، والإفراج الفوري ودون قيد أو شرط عن جميع المعتقلين، وتجريم التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية وغير الإنسانية، وإلغاء القيود المفروضة على حرية التعبير وضمان الامتثال للمعايير الحقوقية الدولية، والتحقيق في جميع مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان، وإزالة القيود على منظمات المجتمع المدني والجمعيات العاملة في مجال حماية حقوق الإنسان وغيرها من التوصيات التي تمثل مدخلاً عملياً مناسباً لمعالجة الاحتقان السياسي والحقوقي. ***** ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ • والتر كالين يعمل محاضراً في القانون الدستوري والدولي بجامعة بيرن بسويسرا، وهو مدير المركز السويسري للخبرة في حقوق الإنسان، وقد تقلّد عدة مناصب حقوقية عليا لدى الأمم المتحدة والبرلمان السويسري والحكومة الفيدرالية السويسرية.
|