برّانية الديمقراطية البحرين وبقية الثورات العربية مثالاً محمود حيدر رئيس مركز دلتا للأبحاث المعمَّقة-بيروت Email: [email protected] [email protected] ورقة مقدمة الى المؤتمر الدولي الذي عقده منتدى البحرين لحقوق الانسان. بيروت في 12/12/2012.
لم يكن لحادث تاريخي أن يحظى بتلك الوفرة من الجدل حول ماهيته وهويته ومآلاته المنتظرة، كالحادث المتمادي على مساحة العالم العربي منذ بداية العام 2011. ولا غلوّ في القول إنّا مررنا، ولمّا نزل، بإزاء "جيولوجيا سياسية"، لا تعريف واحداً أو محدَّداً لها. فلقد بدا كل تعريف نُسِب إليها مشوباً بالنقص، ذاك أنه يصدر من رؤىً وأحكامٍ وتعليلاتٍ تعكس إلى هذا الحد أو ذاك، آراء ومواقع ومصالح، وتحيّزات الفاعلين فيها. فالذين ذهبوا إلى توصيفها بـ"ثورات الربيع العربي"، سيكون لهم من الأسباب والتقديرات ما يحملهم على ذلك. والذين مضوا إلى قراءة معاكسة، نظروا إلى تلك "الجيولوجيا"، بما هي امتداد جيواستراتيجي لهيمنة خارجية، تتغيّا تفكيك وإعادة تركيب الإقليم العربي تبعاً لمصالحها. ولهذه القراءة كذلك حظٌّ من الصواب، بما تقدمه من شواهد على أوصاف ونعوت لا تخلو من منطق يؤيدها ويسبغ عليها المشروعية. ثمّة آخرون انبروا إلى ما يتعدى التفسير المألوف للثورات، فرأوا إليها كمصادفة تاريخية نبتت على أرض الضرورة، لكنها فاجأت الكل، وأنتجت لنفسها حيّزاً خارج التوقّع. هنالك إذاً، مشكلة فهم، ناجمة عن تعدد التفسيرات وعن الاسباب التي تحكم مواقف الفاعلين في دوائر التحولات.. وحيث نشير إلى مثل هذا المَشكلِ المعرفي، فلكي ننبّه إلى صعوبة أكيدة في تظهير فهم مشترك ودقيق لحاضر ومآل الحوادث الجارية. على سبيل المثال والإشارة؛ لو أخذنا مدّعى الديمقراطية، كمعيار وقيمة سياسية وأخلاقية مركزية في الحادث العربي المستمر، فلن نكون تحت أي تقدير أمام أطروحة بريئة. وسنجد على الإجمال، أن هذا المدّعى يجري توظيفه نحو مقاصد وأهداف الدّاعين إليه. وتوضيح ذلك، أن الدعوة إلى التغيير الديمقراطي، بدعوى التصدّي لتحديات الاستبداد في الحياة السياسية الوطنية، هي دعوة موصولة بمؤثرات جيواستراتيجية، ومحكومة باعتباراتها، وبشطر وازن من شروطها. ثم إنها دعوة داخلة في صلب "جيولوجيا الأفكار" التي ضربت الثقافة السياسية العربية وقلبتها رأساً على عقب. حتى لقد بدا كما لو ان الغاية من استحضار قيم الثورة الديمقراطية، لم يكن إلا لإجراء تحويلات جوهرية في أنظمة السياسة والأمن، أو الاستيلاء على السلطة بأي ثمن. من أظهر تجليات الاستقطاب المندرج على خط التوظيف: عزل الأطروحة الديمقراطية والإصلاح السياسي، عن الاختصام مع استراتيجيات الهيمنة بصيغتها النيو-إمبريالية. واللاّفت أن هذا العزل راح يتحول، وفي خلال زمن قياسي، إلى ثقافة سارية لدى نخب فكرية وسياسية واسعة في العالمين العربي والإسلامي. أما الحصاد المباشر لمثل هذا العزل، فهو حدوث انقلاب في عالم المفاهيم والأفكار سيكون له أثر بيّن على حزمة من المسلّمات التي شكلت على مدى احقاب طويلة البنية المعرفية للنضال الوطني والقومي في العالمين العربي والاسلامي لعل ابرز هذه المسلمات، تصدَّع معايير الولاءات الوطنية، حتى بالمعنى الذي تأسست قواعده على نصاب الدرس التاريخي للفلسفة السياسية الحديثة. من داخل هذا المنفسح، ينعقد إشكال بين ضرورتين متلازمتين: تنمية الحياة السياسية الداخلية، والمحافظة على السيادة الوطنية. فلقد أظهر المشهد العربي العام، تناقضاً جدياً عَصَفَ بالضرورتين معاً، وأوجد خللاً في وحدتهما المفترضة، ودفع بهما في اتجاهين متعاكسين، الأول: اضطراب في التحول الداخلي، أدى إلى وضع حركة التغيير أمام حدّين يتعادلان في القسوة إما الاستغراق في الفوضى والعنف، وإما المصادرة والاحتواء. وهو ما ألفيناه جلياً في اختبارات مصر وتونس واليمن وليبيا، وناهيك عن البحرين لو بوقائع وصور متباينة. الثاني: احتدام في فضاء الإقليم، بلغ ذروته مع ترتيبات دولية مستأنفة، غايتها إعادة تشكيل مظلّة أمنية استراتيجية، تغطي شبه القارة الشرق أوسطية، وتركز بصفة خاصة على البلدان العربية المحيطة بالدولة اليهودية في فلسطين. بين هذين الاتجاهين، ستظهر إرهاصات زمن رمادي من علاماته الفارقة، عسر الولادة الطبيعية لربيع ثوري عربي، يملك حظَّ الاستقلال عن المداخلات الجيوبوليتيكية والتحرّر من مؤثراتها. الاختبار الليبي في هذا الزمن جاء نموذجياً وصارخاً: ليأتي التحول في نظام هذا البلد السياسي والاجتماعي كحاصل مدوًّ لغزو خارجي، بما كان للأمر من تداعيات جعلت إعادة تكوين جماعاته الوطنية أمراً يدنو من المستحيل. الاختبار السوري ـ وعلى الرغم من تلازم الضرورتين المشار إليهما آنفاً - فقد انطوى منذ البداية على خاصيّة، تقدمه كمثال بيّنٍ على طغيان العامل الجيواستراتيجي ومفاعيله المدوَّية، في تفعيل خيارات العنف الأعمى. . . وفي المختبر التونسي والمصري سوف تطالعنا شائبتان اخذتا تستحكمان بحراك ما بعد بنعلي ومبارك. الاولى: ولادة سلطة هي حصيلة انتصار الايديولوجيا على الشارع ولو عبر ديمقراطية الحشود المحمولة على يقظة الغرائز. والثانية: وصل المولود السياسي الجديد حبل صرته بالمؤثر الخارجي، ظناً منه ان في هذا الوصل عامل أمان يحفظ له نموه وثباته في الحكم. كانت النتيجة ان الديمقراطية التي اوصلت الايديولوجيين الاسلاميين الى الحكم في تونس ومصر لم تتجاوز وظيفتها التقنية. أي انها جاءت معرَّاةً مما شاع عنها من قيم تتصل بالعدل والتوازن ورحمانية التدافع. في الحالة البحرانية نرانا بإزاء صورة مقلوبة. لقد استطاعت الملكية ان تكون حليفاً موضوعياً لثورات الربيع العربي. واستطاعت بتسديد وتأييد وعناية الحلفاء من ثورييي القومية العربية السابقين ويسارييي الاشتراكية الآفلة، وديمقراطيي عرب ما بعد الحداثة . . ان تحكم على شارع عريق بديمقراطيته بإنزاله المنزل الطائفي المذهبي، ثم لتحيل ثورته الى دراما ايديولوجية مطوَّقة بحرس هائل من اكاذيب الليبرالية العربية المستحدثة. ومثلما ابتليت الثورات العربية بالفتنة من داخل والاحتواء من خارج، ابتليت ثورة البحرين بمظالم مثلثة الاضلاع: 1- مظلمة الزمان: حيث جاءت في ميقات رمادي بلغ فيه عصر الثورات الكلاسيكية منتهاه الأكيد مع نهاية القرن العشرين، من دون ان يبتديء عصر تنفسح فيه الارض لثورات تستطيع ان تنجز أهدافها بمعزل من إكراهات العولمة. 2- مظلمة الجغرافيا: حيث حلَّت وسط عالم عربي وإسلامي تجتاحه حروب عالمية واقليمية واهلية تحول بينها وبين ان يصل مشروعها الديمقراطي الثوري الى نهايته المأمولة. ولو مضينا شوطاً في الإيضاح لظه لنا ان للفاعل الجغرافي في ثورة اهل البحرين أثره السلبي المركب: فالتشكل الجزيري للبلد يجعله محاطاً ببحر لجيٍّ من الجيوش والاساطيل، بما يبقيه نقطة قلقة على خريطة غير مستقرة لدول مجلس التعاون الخليجي. ذلك يعني ان أي تبدُّل في موقعية البحرين الأمنية والسياسية بات شأناً موصولاً بعروة وثقى بالأمن القومي لسائر دول الخليج ولاسيما السعودية فضلاً عن الانتشار العسكري الاستيطاني للقوى الاطلسية . . . 3- مظلمة الرؤية: حيث لم يُرَ الى ثورة البحرين، ولم يجر التعامل معها، إلا بوصفها حالة مرفوعة على نصاب الانشطار المتمادي للهويات الفرعية الكامنة. فلقد افلحت ثقافة التشظي الطائفي والمذهبي في فصل الحراك البحريني عن نظائره العربية. ثم لتنجلي الصورة عما يفصح عن جحود مدوٍّ في النظر الى هذا الحراك وتصنيفه والحكم عليه. بدت ثورة اهل البحرين في الثقافة السياسية العربية الشائعة ثورة مذهبية وطائفية يحركها اركان الهلال الشيعي، بينما ظهرت ثورات مصر وتونس وليبيا تمثيلاً لربيع عربي لا تشوب ديمقراطيته شائبة. وكما هو شأن حراك البحرين الذي يحرص المؤثر الجيوـ ستراتيجي المعولم على توصيفه كحالة تمرد سيمتد غذاءه من خارج، كذلك هو شأن الحراكات العربية على الجملة ولو من منطلقات معاكسة. فلو أن من استنتاج معرفي وجبت ملاحظته في ساحات الاحتدام العربي، فسيكون في الكيفية التي استطاع فيها الايديولوجيون احتواء الشارع، وبالتالي تحويل فعالياته إلى طريق سريع للإستيلاء على السلطة. دلّت التجربة المصرية، ولا سيما بعد وصول الإخوان المسلمين إلى رئاسة الدولة، على أصالة الايديولوجيا ومكانتها في الواقع السياسي. ما يعني في الحصيلة المنطقية، أن ميدان التحرير كان أشبه بجواز مرور فعلي مكّنهم ـ بما يمتلكونه من ميراث فكري وتنظيمي ذي جذور تاريخية ضاربةـ أن يعبروا من خلاله إلى فردوس الحكم. ليس من العقلانية في شيء، أن تُعزى هذه الحصيلة ـ كما يزعم محللون ـ إلى محاولة التفاف ناجحة على "ثورة ساذجة". المسألة أبعد من هذا، فهي لا تُختزل بمجرد القول إنها عملية تسلل محكمة الاتقان، نفذها الإخوان وحصدوا نبات ما زرعه سواهم، فواقع الحال ليس على هذا النحو من التبسيط. كل ما قيل عن شارع مليوني تحركه تقنيات الانترنت، وما لها من وزن في تحويل الحدث الجماهيري إلى "خطب جلل"، لا يتوقف عند هذا الحد. فالذي يحرك الحشود ويضبط مشاعرها، هو ذاك الذي يقدر على أن يصنع لها الكلمات والمواقف، ويرسم لغضبها العارم خطوط النهاية. وهذا هو الشيء الذي بيّنته النتائج على الإجمال، حيث وجدنا كيف استكان الشارع لضراوة الفاعل الإيديولوجي واطمأن إلى سحر خطابه. المثل التونسي سيفتح الطريق على حالة عيانية مشابهة. وكما سيطر الإخوان في مصر، سيقدّر لحركة النهضة، وهي سليلة الفضاء الايديولوجي نفسه، أن تحقق ما كان بالنسبة إليها ولزعيمها راشد الغنوشي، حلماً بعيد المنال. سوف لن نجد كثير مشقة لنتعرف إلى المغزى الذي آلت فيه حركة الشارع إلى حصنها الايديولوجي، على الرغم من شجاعة شباب الثورة الذين كسروا الخوف وواصلوا الزحف ببراعة نادرة، لكن القضية لا تتوقف عند حدود البطولة المسددة بتكنولوجيا التواصل والحث على ملء الساحات بأصداء الحناجر. فلقد بدا كما لو أن الشارع يجري وراء الايديولوجيا، ليملأ بواسطتها فراغاً لم يفلح في ملئه طليعيو الشارع الأوائل، أولئك الذين دأبوا على إظهار شغفهم بالتغيير، من خلال عوالم افتراضية لم تفتأ حتى تحوّلت مع سواهم إلى حقائق دامغة. من هذا الوجه لم يكن كل منخرط في المواجهات، أيّاً كانت هويته الاجتماعية والسياسية، غافلاً عن الأهداف التي تحيّز لها. فالذي اختار الميدان مسرحاً للعبة الحرية على خطورتها، كان يعي ويدرك ما يصنع، وكان العقل حاضراً بقوة لديه، لكي يحقق الغاية التي من أجلها خاطر بالمنازلة. وهذا السلوك سمة لازمة للممارسة الايديولوجية، التي من أبرز مزاياها الجمع بين التعقل والرغبة الجامحة. فالإيديولوجية قد لا تشعر بمشكلة الحدود بينها وبين العقل، بقدر ما يشعر العقل بتلك المشكلة حين يستقل بنفسه، ذلك أنه ليس من مصلحة الايديولوجيا إزالة الالتباس، الذي يسمح لها بهامش واسع من المناورة والمراوغة تجاه العقل. في وقائع التحولات، ما يؤكد أن السياسة، هي مركز الجاذبية لكل فاعل ايديولوجي. فمقاصد الايديولوجيا كامنة أساساً في العناية المطلقة بالشأن السياسي، الذي لا يعادله شأن آخر. بل يجوز القول إن تلك المقاصد، شكلت الهندسة المعرفية التي يتدرّع بها كل ناشط في الحقل العام، تحقيقاً لأغراضه السياسية. وثمّة من يرى أن ما تحوز عليه الأجهزة الايديولوجية من قدرات في احتواء الجماهير وتوظيف انفعالاتها، يمتد إلى النقطة التي يصبح فيها العقل عبداً لمقتضيات السياسة؛ وذلك على نحو تصير فيه الديمقراطية مأكلة للسلطة واغواءاتها. الحادث العربي الإجمالي لا يفارق سقف هذا التنظير، فخلاصته تشير إلى قدرة الجهاز الايديولوجي على التهام كل ما هو أدنى حيلة منه، ولا سيما اولئك الذين لا يملكون سحر الكلمات التي تثير غرائز الحشود وتؤدي الى تفجير البؤر الكامنة في الوجدان العام. ونقصد به عموم البيئة الليبرالية التي وجدت ضالتها في منظمات المجتمع المدني ترفع بيرق الديمقراطية على رؤوس الاشهاد .. لقد أنجز شباب الثورة في ميادين التحرير، ما كان ينبغي على الجهاز الايديولوجي والتنظيمي للإخوان أن ينجزه، حتى تتسنّى له إدارة الانتقال المعقد من الشارع الملتهب إلى القصر الرئاسي. وعند هذه النقطة من زحف الايديولوجيا المدوّي، سوف نسلّم بأن المهمة كانت تاريخية ومعقّدة وشاقّة، ولكنها تتمتّع بقدرات إضافية على المناورة، ذلك أن "حركة الإخوان" لما حطّت الرحال في مقام الرئاسة لم تغادر الشارع، ولم تقطع معه صلات الوصل، وستعود إليه وقت الضرورة عندما تستشعر خطراً قد يأتيها من الشارع نفسه. لم تمضِ أسابيع حتى وفّت السلطة الايديولوجية المحدثة بوعودها. فها هي تحتشد بجماهيرها لحماية القصور الرئاسية وتصدر من القرارات والقوانين ما يجعل الديمقراطية سلاحاً لجماعة جاءتها السلطة على نصاب القضاء والقدر. في السؤال البحريني الكثير مما يتباين مع أسئلة الساحات العربية الاخرى. ذاك ان معايير النخب واحكامها تستغرق في الإقصاء الايديولوجي حتى منتهى القاع. لكن العودة الى سؤال الديمقراطية يبقى يحتل عرش الكلمات والخطب ولو على نشأة الرياء الصريح. مع ذلك يبقى هنالك من يسأل بفضول: ..وما جدوى الكلام المفتوح على الديمقراطية..؟ والجواب كما يقال : دع ماء النهر يجري ولو لم تشته سفن التائهين في ساحات الغضب .. كأنما كل محاولة لطرق ابوابها، تفضي الى ابواب اخرى لا تنتهي. غير ان الأخذ بفكرتها، او المضي بعيداً في سبيلها، هو قدر لا محيد عنه. اذ مهما استغلق امرها، او تعثر الطريق اليها تظل هي.. هي، تلك الغاية الجميلة المستحيلة. نتطلع اليها بدأب وصبر وبحث لنتدبّر فوضانا، او لنعثر على ضالتنا الى الحرية والعدالة والاعتراف.
|