في 3 كانون الثاني/ يناير 1922، صدرت مذكّرة سرّية «رقم 1-C» عن الوكالة السياسية البريطانية في البحرين، أعدّها المعتمد السياسي الرائد «سي. كيه. ديلي»، بعد اضطرابات عديدة حدثت في البلاد، بعنوان: «بعض نماذج الظلم الذي يلحق بالمواطنين البحرينيين من العائلة الحاكمة في البحرين»، وورد في الفقرة 18 التالي: «وقعت جريمة سياسية مؤخّراً في سترة، وجريمة أخرى قرب النعيم، ولكن لم يتمّ اعتقال أحد باستثناء أقرباء الأشخاص المقتولين الذين تمّ تهديدهم لمنعهم من تقديم شكوى، ومنذ ثلاثة أسابيع، ارتكب الشيخ خالد، أخو الحاكم، جريمة سياسية أخرى ولم تجرِ أيُّ اعتقالات». يمتلئ أرشيف الوثائق البريطانية بالكثير من التقارير التي تُوثِّق ما كان يتمّ توصيفه بالجرائم السياسية، وهي جزء من الذاكرة الوطنية التي تشتغل السلطات البحرينية على تزوير وقائعها أو تغييبها في مناهج التعليم الرسمي، أو في إصدارات «هيئة البحرين للثقافة والآثار». وبعيداً عمّا يرد من معلومات تاريخية حول تطوُّر حركة الاحتجاج داخل البحرين، تهمُّني هنا الإشارة إلى التحديث السلطوي لآليات القمع السياسي منذ عام 2011. في التقرير أعلاه من سنة 1922، يثبت أن السلطات لجأت إلى استهداف أقارب الضحايا بدلاً من ملاحقة الجناة وتحقيق العدالة. كما عمدت إلى تمييع الإجراءات الرسمية التي ستطاول لاحقاً مَن تورّط في جريمة سترة على سبيل المثال. إذ يرد في أرشيف الوثائق البريطانية، في «ملف 9/4» المعنوَن بـ«تطبيق الإصلاحات في البحرين» التوصيف التالي: «نتيجة للهجوم السابق على سترة من قِبَل أبناء خالد بن علي، صدرت عقوبة خفيفة لجريمة خطيرة للغاية، وهذا سيُشجِّع على مزيد من الغضب: الأوّل في الهند على نفقة البحرين، وربّما يعيش في راحة أكبر من السابق، أمّا الثاني فتمّ نفيه إلى مكان يبعد أربع ساعات؛ لذلك يمكن القول إنه أفلت من كلّ العقاب».
ما بعد 2011 تكاد البحرين تكون الدولة الأولى خليجياً في كمّ التقارير الحقوقية التي تُوثِّق الانتهاكات الجسيمة فيها، ولكنها تمتاز أيضاً بوسائل الالتفاف والتحايل على ما يصدر من إدانات دولية، في الوقت الذي تعمل فيه على الانتقال بواقع البحرين إلى دولة أمنية بشكل مؤسَّساتي. منذ صدور «تقرير بسيوني» (رئيس اللجنة البحرينية المستقلّة لتقصّي الحقائق محمود بسيوني) في عام 2011، والسلطات الرسمية تشتغل على تطوير منظومة القمع السياسي. في البدء وجدت نفسها بحاجة إلى رافعة تشريعية للالتفاف على أيّ إدانات قانونية؛ فعمدت إلى استصدار عدد من التشريعات لتحقيق التالي: - تغليظ العقوبات بحقّ السجناء السياسيين، مثل أحكام الإعدام في قانون القضاء العسكري. - توفير الغطاء القانوني لبعض الانتهاكات - مثل الاختفاء القسري - من خلال قانون الإرهاب. - استحداث نيابة الجرائم الإرهابية، والتي كانت بمثابة عودة إحياء قانون أمن الدولة، ولا سيما بتعيين أحمد الحمادي رئيساً لها، وهو أحد ضبّاط أمن الدولة المتَّهمين بالتعذيب في تسعينيات القرن الماضي، فضلاً عن تحويل القضاء إلى مسرح لسياسة الإفلات من العقاب؛ حيث لا يتمّ الاكتراث بما يرد من شكاوى الضحايا حول تعرّضهم للتعذيب. من الأمثلة التي وقعت في 25 يونيو/ حزيران 2018، قال السجين السياسي فاضل محمد جعفر، للقاضي علي خليفة أحمد الظهراني (نجل رئيس مجلس النواب السابق)، أثناء محاكمته، إنه تَعرّض للتعذيب، وإنه لا يعرف المتَّهم معه في القضية نفسها (عادل أحمد)، لكنه من شدّة التعذيب قال بأنه معه على رغم أنه لم يلتقِ به قبل ذلك، وبأنه لم يستطع نفي التهم الموجَّهة له في النيابة لتعرّضه للتهديد في التحقيقات الجنائية بتجديد وجبات التعذيب إذا غَيّر أقواله، فردّ عليه الظهراني: ولكنك اعترفْت، ليحكم عليه لاحقاً بالسجن المؤبَّد وإسقاط الجنسية في ما عُرفت بقضية «أنبوب نفط بوري».
تحوّلت مراكز الاحتجاز إلى ساحة أخرى من ساحات الانتقام السياسي
وعلى صعيد الجمعيات السياسية المعارضة - والسلطة منذ البداية ترفض توصيف الأحزاب السياسية -، عمدت الحكومة إلى التدرُّج في كتم أنفاس المعارضة السياسية في الداخل. في البدء، اشتغلت على اعتقال عدد من قيادات المعارضة، ثمّ عمدت إلى تحريك الدعاوى القضائية التي تخلَّلتها قرارات بإيقاف نشاط الجمعيات بشكل مكرَّر، كما حدث لكلٍّ من «الوفاق» و«وعد» و«أمل»، وصولاً إلى حلّ «الوفاق» و«وعد» لاحقاً، فضلاً عن تجريم التواصل الدبلوماسي مع الوفود الخارجية. أمّا الخيار الأكثر خطورة فهو تىشريع قانون العزل السياسي قبل انتخابات 2018، قبل أن تضاعف وزارة العمل والتنمية الاجتماعية التوسُّع في تطبيقه منذ مطلع 2020، بعد إبلاغها المؤسّسات الأهلية باشتراط التدقيق الأمني، حيث بدا واضحاً أنّ هذه الإجراءات تستهدف شطب كلّ فرد، مِمّن ينطبق عليه قانون العزل السياسي، من فرصة العمل في مؤسّسات المجتمع المدني والمنظّمات الأهلية. وفي قبالة التضييق على المؤسّسات السياسية والحقوقية، خصوصاً بعد إحالة مهمّة تجميد أنشطة أفراد هذه المؤسّسات إلى جهاز الأمن الوطني، الذي اعتمد عدّة وسائل: التعذيب والتحرّش الجنسي والصعق الكهربائي في غرف التحقيق، واستهداف المصالح الشخصية للنشطاء، والمنع من السفر، تمّ تزويد المؤسّسات التي أنشأتها السلطات، مثل «الأمانة العامة للتظلّمات» أو «وحدة التحقيق الخاصة» أو «المؤسّسة الوطنية لحقوق الإنسان»، بالدعم المالي المفتوح تحت متابعة وزارة الداخلية، من أجل استصدار تقارير مضلِّلة حول الواقع الحقوقي، والتواصل مع هيئات الأمم المتحدة والوفود الأجنبية، ولكنها على رغم ذلك فشلت في أداء مهامها، وهي لا تحظى بأيّ مصداقية أمام المجتمع الحقوقي الدولي. وبالطبع، فإن مراكز الاحتجاز في البحرين تحوّلت إلى ساحة أخرى من ساحات الانتقام السياسي؛ حيث عمدت إدارة السجون إلى رهن الحقوق الدنيا للسجناء باستصدار الإذن الأمني للموافقة عليها، مثل أداء الشعائر الدينية، ولا يزال السؤال مطروحاً: كيف سيكون تعاطي الجهات الرسمية مع السجناء لو تفشّى «فيروس كورونا» في السجون؟ وخصوصاً أن الحرمان من العلاج هو إحدى الوسائل الفضلى للتعذيب طوال السنوات الماضية، فيما يشتكي السجناء السياسيون من الإهمال الصحي. أمّا التحديث الأخير لمسلسل القمع، فهو المرسوم الملكي الصادر بحق الأوقاف الجعفرية، والذي وسَّع من صلاحيات مجلس الإدارة الخاضع لإرادة الديوان الملكي، واضعاً مئات الهيئات الوقفية بما تملكه، من موازنات مالية وشؤون تنظيمية خاصة بإدارة الشأن الديني، تحت هيمنة القرار السياسي الرسمي بخلاف مقرَّرات الفقه الجعفري. خطوة من شأنها تسريع وتيرة الاضطهاد الطائفي في البلاد، الأمر الذي دفع بآية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم، في بيانه قبل أيام، إلى أن يدعو إلى اشتراك الجميع في إنكار هذا القرار السياسي بنحو مكرَّر.